وصل بنا القطار القادم من ميـلانـو إلى محطة اللكسمبورغ دات صباح شتاء سنة 1994، كان البرد قارسـاٌ والسماء كعادتها مُثقلة بسحبها الرمادية، توجهت إلى مقهى لأتناول قهوة قبل كلِّ شيءٍ، لكن حديثي مع " الباطرون" زاد من كآبة الوضع :
" لدينـا أزمة أيضاً، وفرص الشغل تقلُّ يوم بعد يوم٠٠٠ "
أخدت جريدة المقهى لعلني أجد عكس ما يقول، بينما كان يدخنُ سجارته وراء " الكنتوار " يتأملني وهو لا شك سعيداً وفق المقولة الصادقة : " الغريبُ هو ذلك الشخصُ الذي يُشعرُك بأنك في وطنك "٠
فجئة عثرت على غرفة بمأوى تناسب وضعيتي :
" موسيوه، معدرة "
" نـعم٠٠"
"هل لديكم فكرة عن مدينة تدعى " لَـوْترْبورن " ؟
" أوو لا لا٠٠إنها قرية نائية في مأخرة العالم يا صديقي "
" لا عليك، أنا أيضاً قادمٌ من بعيـد "
أديت له ثمن القهوة وآنصرفت لحالي، أما المأوى المسمى " إلى الطاحونة القديمة " فقد كان فعلا بقرية مفقودة بين جبالٍ وغابات، وصلتُ إليها مساءً عبر رحلة الشتاء والصيف، لأن مواصلات النقل العمومي جد قليلة، فالكلُّ يملك سيارة أو أكثر، فدُوقية اللكسمبورغ من أغنى الدول بفضل أبناكها المليئة بأموال مهربة للشعوب المقهورة، كالمغاربة مثلاً، أما المنطقة، فكانت باردة بشكل خاص، لا تختلف عن طبيعة سكانها، لكن لحسن الحظ كانت حرارة آستقبال السيد فرانسوا وزوجته الفرنسيين قد أطفت بعض الدفئ على صقيع المكان واللحظة٠
صباح الغد، قضيت ساعة بجانب الطريق أترقب " الأوطوسطوب " ومن الغريب في الأمر كان السائق إما برتغاليا أو ألمانيا أو فرنسيا كالذي توقف دلك اليوم، بعد أن قدمت له نفسي حكى لي هو الآخر عن عمله وحياته هناك، وفي الغد، وفي نفس الوقت توقفت سيارة أخرى لفرنسية، وبمجرد ما ذكرت لها إسمي حتى تفاجئت :
" ألستم ذلك الفنان المغربي اللدي درس الفنون الجميلة بديجون ؟ "
" بالضبط ، كيف تعرفونني !؟ "
" حكى لي عنكم زوجي، لقد سافرتم معه بالأمس "
" العالم صغير كما يُقال يا سيدتي ! "
"بالفعل، خُصوصاً هنا فالكل يعرف الجميع، وعلى ذكر ذلك، لدي صديق سيفتح قريبا مطعما بإشْترناخ إذا كنت ترغب في الشغل ؟ "
" كيف لا ؟ طبعـاً، أشكرك يا سيدتي، هدا رقم هاتف المأوى في حالة ما "
عُدت مساء إلى غرفتي الصغيرة مُحطم الخطوات، وبمجرد ما رآني السيد فرانسوا صاح:
" آه ! هاهو قد عاد لوموسيوه من مغامراته الغرامية هه هه، يحُلُّ بالأمس وإذا بالنساء تطلبـه اليوم في الهاتف ! إنه لا يضيعُ وقته ! "
" معدرة موسيوه فرانسوا، عن ماذآ تتحدث ؟ من سأل عني ؟ "
" إنها سيدة طلبت منك أن تتصل بهدا الرقم٠٠"
"آه طيب، فهمت الآن، إنها الفرنسية اللتي أخدتني صباح اليوم بسيارتها، لقد وعدتني أن تتصل بي في شأن موضوع عمل، شكراً لك على كل حال "٠
وخلال أسبوعين، غادرت دلك المأوى بمجرد ما حصلت على عمل بمتجر " سوبير مارشي " حيث مررتُ به مستغلا فرصة شراء طعامٍ، وهكذا كانت بداية إقامـة دامت مدتها زهاء عقدٍ من الزمن تلتها رحلات وأسفار، دومـاً في بحثٍ عن غدٍ أفضل لن يأتي أبداً ٠
إنها حياة المنفى والمعانات، نعيشها جميعا في الشتات كما يُشاءُ لها وفقاً لهذا المنوال٠٠٠